الجمعة، 13 أبريل 2012

مصطفى محمود.. الكنز الذي فقدناه

"قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين ميلاده وموته".. كلمة مأثورة من كلمات الدكتور العالم الجليل الطبيب والأديب مصطفى محمود، والذي فاض علينا بعمله الواسع وتأملاته العميقة وخواطره التي بسطت لنا العلوم وجعلتها في متناول الجميع وفى اهتمام الجميع من كل الأعمار وكل الطبقات، طل علينا في 400 حلقة تليفزيونية من برنامجه الشهير "العلم والإيمان" الذي شكل وجدان ومعرفة أجيال كاملة من العلوم من المعلومات، ومن منا لم تداعب أذنيه موسيقى هذا البرنامج الشهير.



ولد مصطفى محمود في 27 ديسمبر عام 1921م، فى قرية شبين الكوم بمحافظة المنوفية بجمهورية مصر العربية، و توفي عام 2009 بعد سنوات من الشلل، تلقى أولى تعاليمه بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية ثم انتقل إلى مدرسة طنطا الثانوية.

بدا حياته التعليمية متفوقاً، وفى منزل والده انشأ معملاً صغيراً يضع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات ثم يقوم بتشريحها، وحين التحق بكلية الطب بجامعة فؤاد (القاهرة حالياً) ليحصل على بكالوريوس الطب في القصر العيني عام 1952، اشتهر بـ "المشرحجى" نظراً لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى طارحاً التساؤلات على نفسه حول سر الحياة والموت وما بعدهما، وتخرج مصطفى محمود من كلية الطب عام 1953 وتخصَّص في الأمراض الصدرية، ثم تفرغ للبحث و الكتابة عام 1961.

ويتحدث مصطفى محمود عن كتاباته قائلا: "لا اذكر من طفولتي إلا الأحلام التي كنت أتخيل فيها أنى عالم ومخترع أو رحّال أو بطل من أبطال التاريخ كما أذكر حبي للموسيقى وللشعر، وفى صباي تعلمت العزف على الناي وفى شبابي درست العزف على العود، وكنت أكتب في أيام الدراسة الابتدائية الزجل والشعر وفى الثانوية القصص والمقالات والمسرحيات وهويت العلوم، وأنشأت معملاً للكيمياء والبيولوجيا في بيتي وكنت أحضر الغازات واشرح الضفادع، نشرت لي أول قصة في مجلة الرسالة عام 1947 ثم بعد ذلك نشرت القصة الثانية في جريدة المصري، ثم اشتغلت في أخر ساعة وأخبار اليوم وفى عام 1952 كنت احد مؤسسي مجلة التحرير وفى عام 1956 اشتغلت بمجلة روز اليوسف"
ويستطرد قائلاً: "كانت حياتي الأدبية خلال ثلاثين عاماً هجرة مستمرة نحو إدراك الحياة والبحث عن الحقيقة وكان كل كتاب محطة على طريق هذا السفر الطويل ".

وأضاف: كانت المجموعة الأولى من الكتب التي صدرت لي فيما بين 1954- 1958 تمثل المرحلة العلمانية وفيها قدمت كتبي .. الله والإنسان – إبليس ومجموعة قصص أكل عيش وعنبر 7 وفى هذه القصص حاولت أن أصور المجتمع من منظور واقعي صرف وكان موقفي من المسلمات الدينية هو موقف الشك والمناقشة.

وكانت المرحلة التالية هي بداية الشك فقد اتضح لي عجز الفكر العلمي المادي عن أن يقدم تفسيراً مقنعاً للحياة والموت والإنسان والتاريخ وفى هذه المرحلة وقفت أمام الموت منكراً ومستنكراً أن يكون الإنسان هو هذه الجثة التي أرها أمامي وهو مجموعة عناصر الكربون والأيدروجين والأكسجين، فلا يمكن أن يكون الإنسان هو مجرد هذه الأحشاء الملفوفة في قرطاس من الجلد، وإنما الحقيقة الإنسانية لابد أن تكون مجتازة لكل هذا القالب المادي المحدود وعلينا أن نبحث عن هذه الحقيقة فيما قبل الميلاد وفيما بعد الموت، وفى هذه المرحلة كتبت مؤلفاتي، لغز الموت و لغز الحياة ورواية المستحيل، وتكاد تبوح رواية المستحيل فيما بين سطورها بهذا العطش الصوفي والروح الرومانتيكية.

وتستمر هذه المرحلة إلى أوائل الستينات وفى 1962 أهاجر هذه المرة بالقدم والجسد في محاولة لاستكشاف الحقيقة في الغابات الاستوائية العذراء ويعقب ذلك رحلة أخرى إلى قلب الصحراء الكبرى في واحة "غدامس" ، وتكون ثمرة هذه الرحلات ثلاث كتب هي: الغابة – ومغامرة في الصحراء – وحكايات مسافر.
ثم بعد ذلك تأتى المرحلة الرابعة التي أحاول أن أركب فيها سفينة العلم لأهاجر إلى ما وراء العلم في مغامرة لأكتب لوناً جديداً من أدب الرواية العلمية فكانت: "العنكبوت والخروج من التابوت ورجل تحت الصفر ، واينشتين والنسبية. "

ثم تأتى بعدها مرحلة أدبية قدمت فيها معظم أعمالي الدراسية وفيها مسرحية الزلزال ومسرحية الإنسان والظل ومسرحية الإسكندر الأكبر ومجموعة قصص مثل: رائحة الدم وشلة الأنس ورواية اجتماعية: مثل الأفيون.
وفى أخر الستينات دخلت عالم الأديان في مسيرة طويلة جداً بدأت بالفدايات الهندية والبوذية والزرادشتية والنيوصوفية واليوجا ثم اليهودية والمسيحية والإسلام وانتهيت إلى شاطئ القرآن الكريم لأجد كل ما كنت أبحث عنه من مشاكل أزلية.

وهكذا تأتى مرحلة التحول الكامل إلى الإيمان وتوالى مجموعة كتب الإسلاميات القرآن محاولة لفهم عصري، رحلتي من الشك إلى الإيمان – الله – محمد – الكنيسة – التوراة – الشيطان يحكم – الروح والجسد و حوار مع صديقي الملحد، وفى هذه المرحلة اتخذت موقفاً صريحاً مناهضاً ومضاداً للفكر المركسي والفكر الشيوعي وأقدم : الماركسية والإسلام – لماذا رفضت الماركسية أكذوبة اليسار الإسلامي ، كما أناقش كل ألوان الغزو الفكري من وجودية إلى عبثية إلى فوضوية إلى مذاهب الرفض والتمرد واللامعقول.

ثم بعد ذلك وفى أواخر السبعينيات تأتى مرحلة الصوفية فأقدم الثلاثية الصوفية – السر الأعظم – رأيت الله – الوجود والعدم – وأسرار القرآن – القرآن كائن حي، ومجموعات قصص مثل: نقطة الغليان وأناشيد الإثم والبراءة ومسرحيات مثل: الشيطان يسكن في بيتنا – الطوفان – ودراسات في الحب مثل: عصر القرود ورواية سياسية مثل: المسيح الدجال.

رحل مصطفى محمود صباح السبت 31 أكتوبر 2009 بعد رحلة علاج طويلا عن عمر يناهز 88 عاماً، إنها حقاً رحلة طويلة من الكتابة والتفكير والتأمل في ذلك العالم المجهول، رحل ذلك الكنز المفقود الذي لطالما نهلنا منه ووجدنا دائما عطاء بلا حساب ووفاء بلا نهاية، وأمل زرعه لنا في تلك الحياة والموت وتلك الحكمة التي قد لا نفهمها في كثير من الأحيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق